من المناعة الذاتية أو الطبيعية إلى المناعة الطبية
كانت حياة الإنسان في الماضي قصيرة ،ولكنه كان يتمتع بمناعة طبيعية أو
ذاتية ويعيش بصحبة جديدة لأنه ابن الطبيعة وربيبها .أما اليوم فإن
الإنسان وإن صار يعيش طويلاً بالمناعة الطبية (بالأدوية والعقاقير
والعمليات الجراحية ونقل الأعضاء ..) إلا أنه يعيش (مجعلكاً) وكأنه في
غرفة العناية الحثيثة دوماً (ICU).
وغالبا ما يموت على الطرق أو ضحية للأمراض الجديدة أو في بيت للمسنين
في مستشفى أو في ركن مهمل من المنزل . كما صار يموت مرتين مرة
اجتماعياً بالعزلة والنبذ ، وأخرى حقيقياً .
وعندما كانت المصيبة تزور الناس ( في الماضي ) كانت تأتي مشياً على
الأقدام أو على ظهر دابة ، فكانت الأحزان تطول بموت أحد الناس، ولما
كان الجميع يعرفون الميت وعنوانه شخصياً .فقد كانوا يشاركون من القلب
في الأحزان ( والأفراح ) وكانت الذكرى لا
تموت .
أما اليوم فإن المصيبة تأتي على ظهر سيارة
أو طائرة ... فلا يطول الحزن
ولا يشارك الجيران أحياناً فيه.بل قد يكون في الجوار الواحد مأتم وعرس
في الوقت نفسه . لقد أصبح الناس في المدن والمدن الكبيرة غرباء يعرفون
الاسم ولا
يعرفون العنوان فيعزون أو يهنئون نفاقاً . والواحد منهم يألف
وجه كلينتون ... أكثر ما يألف وجه جاره كما يقول احد علماء الاجتماع
،
والتغير المتسارع واعتماد المرء على مخازن المعلومات يضعف الذاكرة .ولما كان
التواصل بين الناس في الماضي وجاهياً فقد كان حميمياً.
أما التواصل اليوم – وكما يقول جون جالتنج – فإنه يتم عن بعد
Tele
.
وعنده أن الدمار هو أي شيء يمنع البشر من التفاعل المباشر فيما بينهم .
لقد منع التواصل عن بعد التفاعل المباشر المتعدد الحواس بين الناس
وأفقده الحميمة .
من
حضارات زراعية إلى حضارة تكنولوجية معرفية
إن جميع الحضارات التي عرفها العالم منذ عرفت الشعوب الاستقرار
زراعية المنطق أو الجوهر . ومع أنها كذلك إلا أنه كان لكل قرية ومدينة
وشعب فرادة خاصة به في العادات والتقاليد واللغة واللهجات والأزياء ...
أما الحضارة الآخذة بالتشكل اليوم فهي حضارة تكنولوجية الكترونية
معرفية ، عمادها الاتصال السريع أو الفوري والكمبيوتر ، فتقضي على
الفرادة بين الناس بتماثلهما ،
فتوحدهم شكلا أو سطحياً دون أن يكونوا
متحدين فعلاً.
ويشتد التماثل بينهم
بإتباعهم مناهج متماثلة في الاقتصاد
(
اقتصاد السوق
) والإعلام ، والإنتاج ، والاستهلاك... مما يجعلهم
يعانون من الإشكاليات والمشكلات نفسها ولكنه يوفر للطارئين عليها – مع
ذلك – فرصة للتعلم من أخطاء من يسبقونهم على هذا الطريق فلا يكررونها .