من انحراف اجتماعي إلى إفراز تكنولوجي
يرى
الناس – بما في ذلك
الأطفال – في التلفزيون الحياة "الجميلة "كل
يوم.وبما أنه ما من
أسرة تقريبا إلا وتمتلك تلفزيوناً - وربما ملوناً-
فان ذلك يذكرها يومياً وعلى مدار الساعة ، بعجزها وفقرها.وحتى الأثرياء
يشعرون أنهم- في الواقع – فقراء لكثرة ما يرون من سلع وخدمات تتنافس
على انتباههم وجيوبهم بالإعلانات
التلفزيونية والصحفية وغابات لوحات
الإعلان على الطرق وواجهات العمارات والأسطح والإنترنت ... والتي تزداد
كماً ونوعاً وجاذبية وإغراء
مع كل نبضة إعلانية.أن التلفزيون أو الإعلان... يقول لكل مشاهد أن
الدعوة مفتوحة لك لتشارك في خيرات المجتمع والعالم ولكنه سرعان ما
يصطدم بالحقيقة
الاقتصادية التي تحرمه من ذلك .إن ذلك يعني أن من
المستحيل على المرء المعاصر الشعور بالأمان من الإحساس الداخلي
بالفشل.
ويتولد عن الحرمان
من الاستهلاك إحساس داخلي بالإلحاح والقلق
واليأس ومن هنا ينبع أحد
أهم روافد التطرف ويتغذى العنف والجريمة والفساد.كانت الجريمة في الماضي
محدودة جداً وتعبر عن انحراف اجتماعي عن القيم ، وكان المجرمون والفاسدون
يعدون على الأصابع .
أما اليوم فإنها إفراز من إفرازات المجتمع التكنولوجي
والاستهلاكي.
بل
إنها بأشكالها الجديدة تنسجم مع الهدف الأسمى للمجتمع وهو الحصول على
أكبر ما يمكن بأسرع ما يمكن : بالسرقة والفساد أو بالمخدرات التي توفر
لمتعاطيها خدعة الشعور بامتلاكها مما يجعل الصالحين يعدون على الأصابع
.
إن
الجريمة والفساد المتفشيين في المجتمع الاستهلاكي يجعلان الصالحين
فيه يعدون على الأصابع أن مجرمي اليوم لا يرفضون قيم المجتمع كما كان
يفعل أسلافهم في الأمس ، بل يستجيبون – لا شعورياً – لندائه أي لقيمه
الجديدة .
لعل
هذه الحالة المستعصية على الحل أو الدائرة الجهنمية الناجمة عن الصراع
بين الرغبات
والإمكانيات والإعلانات هي السبب الأول للفساد والجريمة
– كما ذكرنا – فهي التي تحول الناس (من رؤساء الدول إلى الخدم) إلى
ضواري تتسلق جدران مؤسسات الدولة (
الحكومية والخاصة والأهلية
) لنهبها
والانسحاب بالغنيمة . لقد أصبح الفوز والنجاح بأي ثمن في المجتمع الاستهلاكي
المعيار كما يقول جون جالتنج.
من عالم ثابت ومعقول إلى عالم
هارب ومجنون
كان
العالم يبدو للناس في الماضي – أي قبل الثورتين – طبيعياً ثابتاً
ومعقولاً أو مفهوماً . أما عالم اليوم فقد اختفى وجه الطبيعة منه ،
وصار كل شيء فيه مصنوعا أو تكنولوجيا ( هل ترون أنتم أو أطفالكم النجوم
أو القمر أو الشمس أو الغروب أو الشروق أو التضاريس الطبيعية ...؟)
ونتيجة للتغير المتسارع صار العالم يبدو وكأنه هارب من بين أيدينا أو
مجنون لا يمكن فهمه وكل واحد فيه يشكو ويتذمر مع أن غيره قد يحسده على
ما يراه ينعم به .