تمهيد :

 

يقول أحد المفكرين : " من أقدم العصور وحتى الأمس القريب كان المحبون والعشاق يقيسون مشاعرهم – عمقاً وطولاً وعرضاً – بعناصر العالم الطبيعي من حولهم : بالشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار والشروق والغروب والنهر والمطر والندى والبحر والسهل والجبل والنبات والحيوان والطير... كان الشاعر العاشق يعاني، وكانت معاناته جزءاً من دورة طبيعية شاملة للحياة طرفاها الميلاد والموت.

ومع أن الشاعر العاشق كان يهتم باللحظة الراهنة إلا أن الطبيعة المفتوحة من حوله كانت توفر له منصة عالية يطل منها على الزمان والمكان اللانهائيين، ونسبة كدحه وعذابه إليهما. وكان انتظام دورة الطبيعة المتجلية في الفصول يوفر له الأمل والرجاء .
 

وهكذا كان إيقاع الثقافة القديمة تجلياً أو انعكاساً  لإيقاع الطبيعة وكانت الزراعة أو اقتصاد الكفاف- المصدر الأول لتلك الثقافة . كان النشاط الزراعي واستراحاته مبرمجة بدورة الفصول التي كان الإنسان يعيش في وسطها.

ومثلما كان إيقاع الثقافة طبيعياً – أو بطيئا - كان إيقاع التاريخ أو التغير كذلك.يأتي ملوك ويذهب ملوك لكن كل يوم كان يبدو كاليوم الذي سبقه . وبعبارة أخرى كان الإنسان يولد ويحبو ويمشي ويشيب ويشيخ ويهرم ويموت دون أن يرى – إجمالاً – تغيراً يذكر في حياته. كان الإنسان يعيش في الطبيعة. وبما أنه أبنها وربيبها فقد كان مستسلماً – عموماً – لها وبالتالي للمجتمع . وكانت الهوة بين الأجيال معدومة نتيجة لذلك ، والخبرات تنتقل كما هي من جيل إلى جيل.

وعندما وقعت الثورة الصناعية قبل ثلاثة قرون تقريباً، ثم الثورة التكنولوجية (المعرفية المعلوماتية الكمبيوترية) في القرن العشرين حدث تغير أو انقلاب هائل في علاقة الإنسان بالطبيعة والمجتمع والعالم . صار الإنسان يتسيد على الطبيعة وصار كل شيء تقريباً مصنوعاً . أخذت الآلة تحل محل الطبيعة . "والخضوع للذكاء محل الخضوع للغريزة" ، والوجود الديناميكي محل الوجود (الأستاتيكي) "والحضارة محل الطبيعة" ، والتراتب مع الآلة أو التكنولوجيا محل التراتب مع الطبيعة ".
 

كان التغير يحدث بسرعة في العصر الصناعي ثم صار يتسارع في العصر التكنولوجي الذي نعيش فيه. صار الإنسان- ولأول مرة في التاريخ كما يقول العلماء والباحثون – يولد في عصر ، ويموت في آخر نتيجة التطور التكنولوجي . كما صارت اللحظة الراهنة أو الحاضر- لا الماضي أو المستقبل- الوقت الوحيد الذي يربط الإنسان نفسه به أو يرتبط به . بمعنى أن الحاضر صار المصدر الوحيد الذي يستمد منه الإنسان المسرة والرضا والحزن والكآبة...كما يفيد علماء النفس والاجتماع .
 

ونظراً للمتطلبات الملحة للحاضر وضغطه الشديد على الحواس تغيرت نظرة الناس للمعاني والقيم كالحب والألم والخير والشر والحق والباطل... صارت توقعات الناس اليومية محكومة بسرعة التكنولوجيا التي يستخدمون ، والتي كلما زادت كفاءتها في تقليص الوقت والجهد زادت من الإلحاح والتسارع .