وكم ذرفنا ليلةَ الرحيل من دموع
ثم اعتللنا - خوفَ أن نُلامَ - بالمطر
مطر مطر ....
ومنذ أن كنّا صغاراً، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطلُ المطر
وكلّ عامٍ - حين يعشبُ الثرى- نجوع
ما مرَّ عامٌ والعراقُ ليسَ فيه جوع
مطر مطر مطر....
في كلّ قطرةٍ من
المطر
حمراءُ أو صفراءُ من أجنّة الزهر
وكلّ دمعةٍ من الجياعِ والعراة
وكلّ قطرةٍ تُراقُ من دمِ العبيد
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد
أو حلمةٌ تورّدتْ على فمِ الوليد
في عالمِ الغدِ الفتيّ واهبِ الحياة
مطر مطر مطر
سيعشبُ العراقُ بالمطر
أصيحُ بالخليج: "يا خليج..
يا واهبَ اللؤلؤ والمحار والردى"
فيرجع الصدى كأنه النشيج:
"يا خليج: يا واهب المحار والردى"
وينثرُ الخليجُ من هباته الكثار
على الرمال، رغوةَ الأجاج، والمحار
وما تبقى من عظام بائس غريق
من المهاجرين ظل يشرب الردى
من لجة الخليج والقرار
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق
من زهرة يرُبّها الفرات بالندى
وأسمعُ الصدى
يرنّ في الخليج:
مطر مطر مطر
في كل قطرةٍ من المطر
حمراءُ أو صفراءُ من أجنةِ الزهر
وكلّ دمعةٍ من الجياعِ والعراة
وكل قطرةٍ تُراق من دمِ العبيد
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد
أو حلمةٌ تورّدت على فمِ الوليد
في عالمِ الغدِ الفتي، واهبِ الحياة
ويهطلُ المطرُ
|
أنشودة المطر
تحليل القصيدة
ويستذكر السياب بهذه المناسبة ، صورة المواطن عندما يهم
بالرحيل ، طلباً للرزق أو هرباً من الظلم ، متعللين ـ مخافة أن
نلام على رحيلنا ـ بالبحث عن الرزق ونشدانا لنزول المطر ! وما
زال يستذكر أنه منذ صغره ، كان يرى الغيوم شتاء ويشاهد سقوط
المطر ، وكانت الأرض تهتز وتربو بالزرع الأخضر ولكن مع ذلك
يستمر جوع الشعب ، رغم كثرة الخير ، فقد كان قدر الشعب أن يجوع
، رغم جودة المواسم ، وكان ذلك يتكرر كل عام.
ومع ذلك فالشعب والشاعر ما زالوا ينشدون للمطر ، وكأن المطر في
نظره ونظرهم هو الذي سيغسل أرض العراق ويطهرها مما تعاني من
ظلم وقهر . فالمطر لا محالة آت ، وأن أطياف ألوان هذا المطر قد
بدأت ترتسم على أزهار ونباتات بلاده الحمراء والصفراء ، كما
بدت ترتسم على وجوه أبناء شعبه الجياع والعراة , وأن كل قطرة
من دماء أبناء الشعب ، الذين صاروا في نظر الطغاة عبيداً ،
ستتحول إلى أمل بسام على ثغر الطفل الذي سيولد ويحمل في دمائه
الإصرار على التغيير والثورة في قادم الأيام المبشرة بنزول
المطر الذي سيغير الواقع وسيكون هذه المرة من نصيب المظلومين
لا من حظ السادة .
ومع التفاؤل من جانب الشاعر بتحقق الآمال ، إلا أنه في أعماقه
يبدو حذراً من الإفراط في الأمل ، لذا فهو يكرر صراخه بالخيلج
المنقذ والمدمر في آن ، واصفاً إياه بواهب الخيرات ، ولكن صدى
صوته يرتد إليه ثانية حزيناً ، كما في المرة الأولى التي ناجى
فيها الشاعر الخليج ، لكن دون جدوى . ولكن التشاؤم يتسلل إلى
نفسه ـ بسبب الواقع الذي صار الناس يشكون في إمكانية تغييره .
فالخليج ـ كما يراه الشاعر ـ في اللحظة التي يهب أهل بلده
اللؤلؤ والمحار الثمين ، فإنه في الوقت نفسه ، يهب الأرض ملحاً
أجاجاً لا نفع فيه ، وينثر على شواطئه عظام صياد فقير قضى فيه
، وهو يغوص في أعماقه ويصارع الأمواج على وجهه ، وفي المقابل
فإن في العراق آلاف الأفاعي ، التي لا تحسن إلا امتصاص دم
الفقراء ، والتمتع بخيرات العراق والشاعر ما زال لا يجد إلا
صدى صوته ينادي بالخليج راجياً منه إسقاط المطر . الذي سبق
ورجا أن يكون هذا المطر ، هو الذي سيحقق تضحيات أبناء شعبه
الذين وصفهم في مقطع سابق . وأن أمله في سقوط المطر هو أمل لا
بد أن يأتي في يوم ، ويكون فيه الانتقام جزاء وفاقاً لكل من
ألحق الأذى بأبناء هذا الشعب .
|