تثاءبَ المساءُ والغيومُ ما تزال
تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال:
كأنّ طفلاً باتَ يهذي قبلَ أنْ ينام
بأنّ أمّه - التي أفاقَ منذ عام
فلم يجدْها، ثم حين لجَّ في السؤال
قالوا له: "بعد غدٍ تعود" -
لا بدّ أنْ تعود
وإنْ تهامسَ الرفاقُ أنّها هناك
في جانبِ التلِ تنامُ نومةَ اللحود،
تسفُّ من ترابها وتشربُ المطر
كأنّ صياداً حزيناً يجمعُ الشباك
ويلعنُ المياهَ والقدر
وينثرُ الغناء حيث يأفلُ القمر
مطر، مطر، المطر
أتعلمين
أيَّ حزنٍ يبعثُ المطر؟
وكيف تنشجُ المزاريبُ إذا انهمر؟
وكيف يشعرُ الوحيدُ فيه بالضياع؟
بلا انتهاء_ كالدمِ المُراق، كالجياع كالحبّ كالأطفالِ كالموتى –هو
المطر
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبرَ أمواجِ الخليجِ تمسحُ البروق
سواحلَ العراقِ
بالنجومِ والمحار،
كأنها تهمُّ بالشروق
فيسحبُ الليلُ عليها من دمٍ دثار
أصيحُ بالخيلج:
"يا خليج
يا واهبَ اللؤلؤ والمحارِ والردى"
فيرجع الصدى كأنّهُ النشيج:
"يا خليج: يا واهب المحار والردى"
|
أنشودة المطر
تحليل القصيدة
وسقط المطر وجاء نهار وذهب مساء والسماء تجود بالمطر الذي يشبه
دموعاً مقهورة وثقيلة ، وهذا النزول الشديد للمطر يشبه هذيان
طفل ، فقد امه من عام ، ولم يتوان يبحث عنها في كل مكان ، لكنه
لم يجدها ، وعندما ألح على الناس سائلاً عنها ، قالوا له إنها
ستعود قريباً ، وأكدوا له ذلك ، مع أن بعضهم كان يهمس بصوت خفي
حول ما حدث لها ، فهي قد ماتت ودفنت في جانب ذلك الشق ، وكأنها
في موتها تسف التراب ، وتشرب ما ينزل على قبرها من مطر ، ولعل
حال هذا الطفل الحائر السائل عن مصير امه وأمله الضائع في
البحث عنها ، يشبه حال صياد حزين رمى شباكه أملاً بالتقاط
الأسماك وهو يتسلى بالغناء ، عند غروب القمر متمنياً أن يحظى
بنصيب من السمك ، كما يأمل الشاعر وأهل العراق بالحصول على
الخير المتمثل في سقوط المطر .
يبدو أن المطر ـ بدلاً من أن يبعث الفرح في نفس الشاعر ، فقد
كان بالنسبة له ، باعثاً على الحزن ، وقد سحب الشاعر الحزن
أيضاً على المزاريب التي يتسرب من خلالها المطر ، وكيف يكون
وقع المطر على الشخص المفرد مشعراً له بالضياع .
فالمطر يشبه الدم المسفوح ،ويشبه الجياع ، والحب والأطفال ،
والموتى وما زال يتذكر عيني من ذكرها في البداية ، فما زالت
عيناها ترافقانه وما زال يرى من خلال أمواج الخليج الرعود تمسح
شواطيء العراق بالنجوم واللؤلؤ ، وكأن هذه الشواطيء وأهلها
يهمون بالنهوض من واقعهم المر الذي يودون تغييره إلى الأفضل ،
ولكن الليل والظلم يغطي هذي الشواطيء بثوب دامٍ ثقيل ، وفي هذه
اللحظة يتدخل الشاعر صائحاً بالخليج واهب اللؤلؤ والمحار
والموت لأهله ، ليجود على أهله بالخير لكن صيحته ترتد وكأنها
البكاء الشديد ، مرددة نفس صيحته دون أن تلبيها .
|