مستقبل اللغة العربية
مقتطفات من مقابلة كانت قد أجرتها مجلة الهلال المصريّة مع جبران خليل جبران حول مستقبل اللغة العربية.
(6) وما هي خير الوسائل لإحياء اللغة العربيّة ؟
إن خير الوسائل ، بل الوسيلة الوحيدة لإحياء اللغة هي قلب الشاعر ، وعلى شفتيه ، وبين أصابعه ، فالشاعر هو الوسيط بين قوّة الابتكار والبشر ، وهو السلك الذي ينقل ما يُحدثه عالم النفس إلى عالم البحث ، وما يقرِّره عالم الفكر إلى عالم الحفظ والتدوين .
الشاعر أبو اللغة وأمّها ، تسير حيثما يسير ، وتربض أينما يربض ، وإذا ما قضى ، جلستْ على قبره باكية منتحبة ، حتّى يمرَّ بها شاعر آخر ، ويأخذ بيدها . وإذا كان الشاعر أبا اللغة وأمَّها ، فالمقلِّد ناسج كفنها ، وحفَّار قبرها .
أعني بالشاعر كلّ مخترع كبيراً كان أو صغيراً ، وكل مكتشف قوّياً كان أو ضعيفاً ، وكل مختلقٍ عظيماً كان أو حقيراً ، وكل محبٍ للحياة المجرّدة إماماً كان أو صعلوكاً ، وكل من يقف متهيِّباً أمام الأيام والليالي فيلسوفاً كان أو ناطوراً للكروم .
أمّا المقلِّد ، فهو الذي لا يكتشف شيئاً ، ولا يختلق أمراً بل يَستمدّ حياته النفسيّة من معاصريه ، ويصنع أثوابه المعنويّة من رُقَع يَجُزّها من أثواب مَنْ تقدَّمه .
أعني بالشاعر ذلك الزارع الذي يفلح حقله بمحراث ، يختلف ، ولو قليلاً ، عن المحراث الذي ورثه عن أبيه ، فيجيء بعده من يدعو المحراث الجديد باسم جديد ، وذلك البستانّي الذي يستنبت بين الزهرة الصفراء ، والزهرة الحمراء ، زهرة ثالثة برتقاليّة اللون ، فيأتي بعده من يدعو الزهرة الجديدة باسم جديد ! وذلك الحائك الذي ينسج على نوله نسيجاً ذا رسوم وخطوط ، تختلف عن الأقمشة التي يصنعها جيرانه الحائكون ، فيقوم من يدعو نسيجه هذا باسم جديد .
أعني بالشاعر ، الملاَّح الذي يرفع لسفينةٍ ذات شراعين شراعاً ثالثاً ، والبنَّاء الذي يبني بيتاً ذا بابين ونافذتين بين بيوت كلّها ذات باب واحد ، ونافذة واحدة ، والصبَّاغ الذي يمزج الألوان التي لم يمزجها أحد قبله ، فيستخرج لوناً جديداً ، فيأتي بعد الملاَّح ، والبنَّاء ، والصبَّاغ من يدعو ثمار أعمالهم بأسماء جديدة ، فُيضيف بذلك شراعاً إلى سفينة اللغة ، ونافذةً إلى بيت اللغة ، وثوباً إلى ثوب اللغة .
أمّا المقلِّد ، فهو ذاك الذي يسير من مكان إلى مكان على الطريق التي سار عليها ألف قافلة وقافلة ، ولا يحيد عنها مخافة أن يتيه ويضيع ، ذاك الذي يتبع بمعيشته ، وكسب رزقه ، ومأكله ، ومشربه ، وملبسه تلك السبل المطروقة التي مشى عليها ألف جيل وجيل ، فتظل حياته كرجع الصدى ، ويبقى كيانه كظل ضئيل لحقيقة قصيّة ، لا يعرف عنها شيئاً ، ولا يريد أن يعرف .
أعني بالشاعر ذلك المتعبِّد الذي يدخل هيكل نفسه ، فيجثو باكياً فرحا ًنادباً مهلِّلاً مُصغياً مناجياً ، ثمّ يخرج وبين شفتيه ولسانه أسماء وأفعالٌ وحروف واشتقاقات جديدة لأشكال عبادته التي تتجدّد في كل يوم ، وأنواع انجذابه التي تتغيّر في كل ليلة ، فيضيف ، بعمله هذا ، وتراً فضيّاً إلى قيثارة اللغة ، وعوداً طيبّاً إلى موقدها .
أمّا المقلِّد ، فهو الذي يردِّد صلاة المصلِّين ، وابتهال المبتهلين بدون إرادة ، ولا عاطفة ، فيترك اللغة حيث يجدها ، والبيان الشخصي حيث لا بيان ولا شخصيّة .
أعني بالشاعر ذاك الذي ، إن أحبَّ امرأة ، انفردت روحه ، وتنحَّت عن سُبُل البشر لتلبَس أحلامها أجسادا من بهجة النهار ، وهول الليل ، وَوَلْولة العواصف ، وسكينة الأودية ، ثم عادت لتضفر من اختباراتها إكليلاً لرأس اللغة ، وتصوغ من اقتناعها قلادة لعنق اللغة .
أمّا المقلِّد ، فمقلِّد حتَّى في حبِّه ، وغزَله ، وتشبيبه، فإن ذَكَر وجه حبيبته، وعنقها، قال : بدر وغزال وإن خطر على باله شعرها وقدُّها ولحظها، قال : ليلٌ ، وغصن بانٍ ، وسِهام وإن شكا ، قال : جَفنٌ ساهرٌ ، وفجرٌ بعيد ، وعذولٌ قريب وإن شاء أن يأتي بمعجزة بيانيّة ، قال : حبيبتي تَسْتَمْطِر لؤلؤ الدمع من نرجسِ العيونِ لتسقي وردَ الخدود ، وتعضَّ على عنّاب شفتها ، ببرد أسنانها . (1) ___________________ 1- يشير جبران هنا إلى بيت الوليد بن يزيد : وَاسْتَمْطَرَتْ لُؤْلُؤاً مِنْ نَرْجِسٍ ، وَسَقَتْ وَرْداً ، وَعَضَّتْ على العِنَّابِ باِلْبَرَدِ
الذي اعتبره البلاغيّون آيةً في البلاغة لتضمنّه خمس استعارات : تشبيه الدمع باللؤلؤ ، والعينين بالنرجس ، والخدّين بالورد ، والشفتين بالعنّاب ، والأسنان البرد ، ثم حِذف المشبَّه في جميعها .
|
||||||
Copyright © 2001 - 2012 SchoolArabia. All rights reserved الحقوق القانونية و حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمدرسة العربية |