فدوى طوقان : مختارات رحلة جبلية - رحلة صعبة
في تموز 1929 عاد أخي إبراهيم من بيروت يحمل شهادته من الجامعة الأمريكية ببيروت ليمارس مهنة التعليم في (مدرسة النجاح الوطنية). مع وجه إبراهيم أشرق وجه الله في حياتي . كانت عاطفة حبي له قد تكونت من تجمع عدة انفعالات طفولية سعيدة كان هو مسببها وباعثها . أول هدية تلقيتها في صغري كانت منه . أول سفر من أسفار حياتي كان برفقته .
كان هو الوحيد الذي ملأ الفراغ النفسي الذي عانيته بعد فقدان عمي ، والطفولة التي كانت تبحث عن أب آخر يحتضنها بصورة أفضل وأجمل وجدت الأب الضائع مع الهدية الأولى والقبلة الأولى التي رافقتها . منذ صغري أعلن عن نفسه ميلي الفطري للشعر. كنت أجد متعة كبيرة في ترديد محفوظاتي المدرسية منه ، وأقف مملوءة بالانبهار والدهشة أمام ما يقع عليه بصري من قصائد أو مقطوعات مطبوعة في الكتب المدرسية أو في الصحف التي كان يحضرها أبي وأخوتي إلى البيت ، وذلك رغماً عن عجزي عن إدراك مضامينها .
كان هناك كتاب اسمه (الكشكول) يضم مجموعة من الطرائف والشعر والأخبار الأدبية والتاريخية . وفي هذا الكتاب كان لي أول لقاء مع قصيدة (أيها الساقي إليك المشتكى).
وضعتني القصيدة أو بالأحرى الموشح في دائرة سحرية غامضة ، لعل منشاها موسيقاه الخارجية المنبثة من طبيعة الوزن ، والمتميزة بتنوع القوافي، مع الالتزام بقافيتي الشطرين الأخيرين من كل مقطع ، مما أكسب الموشح إيقاعاً يريح السمع ويهدهد النفس . أما الكلمات فكان معظمها بالنسبة لي محملاً بمعان انفعالية نفسانية غير التي قصدها الشاعر.
كنت أبدأ بالقاء المطلع (أيها الساقي إليك المشتكى قد دعوناك وإن لم تسمع) كانت كلمة الساقي تتخذ في ذهني معنى انفعالياً خاصاً، مقروناً بصورة السقاء الكهل الذي كان يزرد بيوت (حارة العقبة) بالماء ينقله إليها من (عين الكأس) شرقي البلدة. كان مجيء السقاء إلى منزل خالتي في (حارة العقبة) مبعث إثارة محببة لي، فمنذ يطأ بقدمه أول درجة من درجات السلم الخارجي المفضي إلى الدار، كان صوته يرتفع بالكلمات المألوفة : "ياساتر، يا الله" وذلك تنبيهاً للنسوة لكي يتوارين خلف الأبواب. كنت أركض إلى السقاء وأقف بجانبه عند الزير الكبير ، أرقبه وهو يرفع القربة عن ظهره بيديه القويتين ، ثم يسندها إلى بطنه وقد جعل فوهتها المربوطة على فم الزير الواسع ، وبعد ذلك يشرع بفك الرباط ، فيندلق الماء العذب الفضي في الزير الذي لم يكن ليمتليء قبل أن يبتلع حمولة أربع قرب أو أكثر .
كان الساقي الذي يخاطبه الشاعر يمثل دائماً في خيالي متقمصاً شخصية السقاء الكهل ، سقاء (حارة العقبة) . ولما كنت أجهل ما هو (الزق) في قوله : (جذب الزق اليه واتكأ) فقد استلزم الفعلان (جذب - واتكأ) إعطاء كلمة الزق عندي معنى الوسادة. أما النديم الذي هام الشاعر في غرته ، (ونديم همت في غرته) فكنت أتخيله ابن جارنا بائع حلاوة الطحينية ، ذلك الفتى الأسمر الطويل النحيل الذي كان يحمل اسم نديم، وهكذا كان يعطي خيالي للكلمات صوراً ودلالات خاصة به وحده .
بعد ستة وعشرين عاماً ، في عصر يوم من أيام حزيران 1955 ، وقفت في قاعة (وست) في الجامعة الامريكية في بيروت، لأواجه لأول مرة في حياتي الحشد الذي دعته الدائرة العربية في الجامعة للاستماع إلى مختارات من شعري. خلال الدقائق التي كان يقدمني فيها الأستاذ جبرائيل جبور ، وبينما أنا أجيل بصري في الوجوه أمامي ، مر بعيني شريط سريع قصير، رأيتني فيه بمواجهة الشجر المنتصب في صحن الدار ، ألقي على مسامعه القصيدة العزيزة: "أيها الساقي إليك المشتكى قد دعوناك وإن لم تسمع !" وابتسمت ."
|
|||||||
Copyright © 2001 - 2012 SchoolArabia. All rights reserved الحقوق القانونية و حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمدرسة العربية |