فدوى طوقان : مختارات رحلة جبلية - رحلة صعبة
" .... عشر مرات حملت أمي . خمسة بنين أعطت إلى الحياة وخمس بنات ، ولكنها لم تحاول الاجهاض قط إلا حين جاء دوري . هذا ما كنت أسمعها ترويه منذ صغري. كانت مرهقة متعبة من عمليات الحمل والولادة والرضاع . فقد كانت تعطي كل عامين أو كل عامين ونصف العام مولوداً جديداً . يوم تزوجت كانت في الحادية عشر من عمرها ، ويوم وضعت ابنها البكر كانت لم تتم الخامسة عشرة بعد. واستمرت هذه الأرض السخية - كأرض فلسطين - تعطي أبي غلتها من بنين وبنات بانتظام . أحمد - إبراهيم - بندر - فتايا - يوسف - رحمي .. كان هذا كافياً بالنسبة لأمي ، وأن لها أن تستريح ، لكنها حملت بالرقم السابع على كره . وحين أرادت التخلص من هذا الرقم السابع ظل متشبئاً في رحمها تشبث الشجر بالأرض ، وكأنما يحمل في سر تكوينه روح الاصرار والتحدي المضاد. ولأول مرة في حياتهما الزوجية ينقطع أبي عن محادثة أمي لبضعة أيام . فقد أغضبته محاولة الاجهاض . كان المال والبنون بالنسبة له زينة الحياة الدنيا ، وكان يطمع بصبي خامس . لكني خيبت أمله وتوقعه . أصبح لديه الآن ثلاث بنات مع البنين الأربعة ..وتبعني فيما بعد أديبة ثم نمر ثم حنان . فاستكملنا العدد (عشرة).
لاتحمل ذاكرتي أية صورة لأول يوم دخلت فيه المدرسة . كما أنها لا تحتفظ بذكرى المرحلة الأولية التي تعلمت فيها قراءة الحروف وكتابتها . ولكن الذي أذكره بوضوح هو استمتاعي دائماً بمحاولة قراءة أي شيئ مكتوب وقع عليه بصري .
لم يكن في نابلس أكثر من مدرستين للبنات ، (المدرسة الفاطمية) الغربية و(المدرسة العائشية) الشرقية . وكان أعلى صف هو الخامس الابتدائي . في (المدرسة الفاطمية) تمكنت من العثور على بعض أجزاء من نفسي الضائعة . فقد أثبت هناك وجودي الذي لم أستطع أن أثبته في البيت . أحبتني معلماتي وأحببتهن ، وكان منهن من يؤثرني بالتفات خاص. أذكر كيف كان يشتد خفقان قلبي كلما تحدثت معي معلمتي المفضلة (ست زهرة العمد) والتي أحببتها كما أحب واحدة من أهلي في تلك الأيام . كانت جميلة وجهاً وقواماً ، وكانت أنيقة ، شديدة الجاذبية. لا أذكر أن واحدة من معلماتي تركت في نفسي ذكرى جارحة أو أثراً لمعاملة سيئة على مدى السنوات القليلة التي أمضيتها في المدرسة . لقد أشبعت المدرسة الكثير من حاجاتي النفسية التي ظلت جائعة في البيت . أصبحت أتمتع بشخصية بارزة بين معلماتي وزميلاتي . وكان من دواعي سعادتي أن معلمة اللغة العربية بين معلماتي أحياناً تلقي على مهمة تدريس التلميذات المتخلفات في الصف . لقد أصبحت المدرسة أحب إليَّ من البيت والمكان الأكثر ملاءمة لي . وفي المدرسة عرفت مذاق الصداقة وأحببته . كانت رفيقة مقعدي الدراسي تلميذة في مثل سني اسمها "عناية النابلسي" وكانت أحب صديقاتي إليّ وأقربهن إلى نفسي.
|
|||||||||
Copyright © 2001 - 2012 SchoolArabia. All rights reserved الحقوق القانونية و حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمدرسة العربية |