|
.... لعل قصيدة من
قصائد السياب لم يتح لها من الشهرة والذيوع والدوران على الألسنة
والأقلام ما أتيح لقصيدته " أنشودة المطر "
, التي كان نشرها على صفحات مجلة الآداب البيروتية في عام 1945 تأكيداً
لريادة السياب , ولشرعية حركة الشعر الجديد كانت الصور الشعرية التي
استهل بها السياب " أنشودة المطر " جديدة ومفاجئة ,وفي الوقت نفسه
عميقة الإرتباط ببيئة السياب الأولى ومخزون دلالاتها في وجدانه:
" فالنخيل
" ميراث حضاري وشعري في ذاكرة السياب .ورمز للعراق الذي
يحمله في أعماقه حيث ارتحل أو اغترب .
"
والعينان "
اللتان يشير إليهما السياب بوصفهما غابتي نخيل , لا ندري
هل هما عينا محبوبة بعيدة , أم هما عينا بلدة أو وطن .لكل من
التصورين أنصاره المتحمسون له في الولوج إلى مدخل القصيدة .لكن عالم
القصيدة يتسع لمختزنات الطفولة البعيدة عند السياب . بصورها
القاسية ووقائعها الأليمة المرتبطة بفعل
المطر الذي يفجر الحزن ويشعر
الوحيد فيها بالضياع وتتراكم من خلاله صور متداخلة للدم المراق والجياع
والحب والأطفال والموتى ,ويستدعي السياب في سياق هذا الموقف المأساوي
رحيل أمه المبكر – وهو في السادسة من العمر – والتي كان يسأل عنها
دائماً لشدة تعلقه بها فيقولون له : ستعود بعد
غد ,
وهي العبارة
نفسها التي سجلها في قصيدته
" أنشودة المطر
" بعد
اثنين وعشرين عاماً من وفاة أمه .ولأن كل ما هو جميل يموت, فإن
المطر – رمز الحياة والخصوبة- يصبح في قصيدة السياب رمزاً لتراكم
الأحزان والحديث الفاجع عن الموت فالخليج لم يعد واهب
"
اللؤلؤ"
وإنما هو واهب المحار والردى , والقرى – تحت وطأة المطر – تئن ,
والمهاجرون – الفارون من الفقر والموت – يصارعون عواصف الخليج
والرعود , التي سببها المطر المتدفق ,ولسوف ينثر الخليج القاسي
والمفترس على الرمال ما تبقى من عظام البائسين الغرقى من المهاجرين
,ويبقى العراق – بالرغم من فيض المطر في كل عام ـ ينثر الغلال في
مواسم الحصاد لتشبع الغربان والجراد ,ويجوع العراق – عراق السياب لا
عراق الطغاة والمستبدين – الذي يستدعي من معجم الشاعر مفردات الجياع
والعراة والعبيد .
|