على الرغم من الشهرة التي حظيت به الرواية ، والتي تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، والتي تصور نماذج من حياة المجتمع الريفي الفرنسي : العادات الاجتماعية ، وأنماط الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية والفنية التي يعيشها الناس في هذا الوسط الريفي، كما تصور العلاقات الإنسانية ، وبخاصة العواطف العامة ، الحب والكراهية والطيبة والخداع ، والرحمة والقسوة ، والطمع والقناعة وغيرها من العلاقات السوية وغير السوية ، فقد لاقت الرواية حين صدورها ، حرباً شديدة شنتها السلطات الرسمية الفرنسية ، وقادت صاحبها ، ومدير تحرير المجلة التي صدرت عنها، وحتى من قام بطباعتها من عمال الطباعة في تلك المجلة إلى المحكمة . فانعقدت المحكمة ـ محكمة جنح باريس ، بتاريخ 21 يناير و 7 فبراير سنة 1857 ـ والتي أقامتها النيابة العامة ضد السيد غوستاف فلوبير ، برئاسة المدعي العام السيد أرنست بينار ، وجهت إلى المؤلف تهماً كان من بينها : 1. الإساءة إلى الأخلاق عامة والأخلاق الدينية بشكل خاص ، إذ رأى الإدعاء أن المؤلف يروج في روايته إلى تمجيد الزنا . 2.اتهم المؤلف بأنه من خلال الرواية يعمد إلى ذكر مواقف شهوانية مكشوفة تسيء إلى الأخلاق . 3. رأى أن الكاتب يروج للتعبير عن الغرائز الجنسية الفاسدة . 4. إن المؤلف يسيء إلى التاريخ الفرنسي والإنجليزي . 5. أن المؤلف لا يحترم موقف الموت ، بل يستغله ليصور مشاهد شهوانية ، مثل تصوير جثة مدام بوفاري ساعة موتها وبأن الملاءة الموضوعة عليها لتغطيها قد تجوفت عند نهديها إلى ركبتها وارتفعت عند أطراف أصابعها .
وقد قال المدعي العام في نهاية مرافعته : أما فلوبير فهو المجرم الأساسي الذي يجب أن يحتفظ له القضاة بقسوتهم ! كانت هذه هي المكافاة التي نالها الكاتب الشهير غوستاف فلوبير من رجال القانون في بلده ، ولكنه على الرغم من ذلك ـ فقد عمل القاضي على تبرئته من التهم الموجهة إليه واكتفى بذلك.
ولم يعلم ذلك المدعي العام ، الذي وقف خصماً لكاتب فرنسا الشهير في القرن التاسع عشر ، أن رواية مدام بوفاري على الرغم من مرور قرن ونصف على صدورها ، وعلى الرغم من مفارقة مبدعها الحياة ، غير أنها ما زالت حتى هذه الأيام تحظى باهتمام القراء في كل أرجاء الدنيا في أوروبا كما في آسيا ، وأمريكا وأستراليا . ولم يقتصر انتشارها على الورق المطبوع ، إلا أنها قد تحولت إلى فيلم سينمائي ، لأكثر من مخرج وما زالت الرواية تلقى الاهتمام من القراء يوماً بعد يوم ، وكأنها بما احتوت من شخصيات متفاوتة في طموحها وآمالها وشهواتها وغرائزها ، وإقبالها على الحياة ، وما ضمت بين صفحاتها من آراء ونصائح وتجارب ونزوات وعذابات ، وما حملته لوحاتها الشعرية بهرت كل من قرأها أو رآها أو سمع بها ، ولا يُعرف إن كان مؤلفها العظيم الذي واجه الاتهام والمطالبة بعقوبته على تأليفها ونشرها بين الناس ، كان يعرف بما ستلاقيه هذه الرواية من الاهتمام والتقدير من الناس .
ولكن الأمر المؤكد أن العمل العظيم ، سيبقى تأثيره مستمراً بين الناس ، برغم زوال صاحبه جسمياً ، وكأن صاحبه حاضر ما استمر الناس يتعاملون مع الأثر الذي ترك ويقدرون العمل وصاحبه !
|
||||||||||||||
Copyright © 2001 - 2012 SchoolArabia. All rights reserved الحقوق القانونية و حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمدرسة العربية |