دعوا الأولاد يأتون إليّ حيفا في 24 / 5 1932 ... فتشت بالأمس مدرسة حيفا فسُرِرتُ بها . واليوم زرت مدرسة عكا الثانوية ، وقد أخذت معي خير الدين أفندي الزركلي ، شاعر سوريا المشهور، فرأى من ذكاء الطلاب وسرعة خاطرهم وارتقاء لغتهم العربية ما أعجب به كل الإعجاب . من جملة القصائد التي ألقوها علينا قصيدة الشاعر في ولده رباط ، ولما جئنا إلى هذا البيت : إذا كان أولاد الناس حزازة فأنت الحلال الحلو والبارد العذبُ قلت لهم : "من يستطيع أن يغير كلمة "البارد" بأخرى على وزنها ومعناها ؟ فما كان من أحدهم إلا قال : "فأنت الحلال الحلو والرائق العذب" ، فصفقنا له . لا يمرّ بي يوم إلا أحببت عملي الذي خلقت له وشعرت أني أستطيع أن أخدم الإنسانية به أحسن خدمة ، وأي خدمة أجلّ وأفضل من إرشاد المعلمين واستنهاض هممهم وبث النشاط والسرور في الطلاب . طلبت من الأولاد في الصف التمهيدي في مدرسة حيفا أن يروني مناديلهم ، فأخرج كل منهم منديله الأبيض النظيف إلا ولداً صغيراً لا يبلغ السابعة من عمره ، فقد كان منديله قطعة خرقة ممزقة ، فسألته همساً : "لماذا لا تحمل منديلاً أبيض نظيفاً ؟" فقال : "لا يوجد عندي" والخجل يكاد يعقد لسانه . فتأثرت جداً حتى اغرورقت عيناي بالدموع . وبعد أن خرجنا من الصف دفعت إلى المدير خمسة غروش وكلفته أن يشتري له منديلين أبيضين ويقدمهما له هديّة . آه ما أسعدني لو أستطيع أن أخفف شقاء البشر ، لو أستطيع أن أقول ما قاله المسيح "دعوا الأولاد يأتون إليّ" ، لو أستطيع أن أكون أباً لكل صغير وأخاً لكل كبير وصديقاً للجميع . مررت على ولد فوجدت أحد خديه أحمر ، فقلت له "لماذا خدك أحمر ؟" فتردد في أول الأمر ، ولما ألححت عليه قال : "إن المعلم ضربني" ، فتأثرت كثيراً وكدت أطلب ذلك المعلم للبراز . ولما انتهي التفتيش جمعت الأساتذة وألقيت عليهم كلمة شديدة . ليس شيء أكره إليّ من أن تساس المدارس بالعنف ، وأني أشكر الله أني أول من نادى في هذه البلاد بتحرير التلميذ ولم أزل منذ توليت عملي أنادي بتحرير التلميذ وبناء تربيته على إعزازه لا إذلاله . وإذا لم أصل إلى غايتي فقد قطعت ثلاثة أرباع الطريق إليها ، وأرجو أن أوفق في القريب العاجل إلى تغيير سياسة العنف هذه وحسبي ذلك فخراً ... استودعك الله يا ولدي وأسأله أن يقيك كل مكروه وأن ينميك في كل فضيلة وأن يحفظك لي ذخراً وسنداً . أبوك
|
||||||||||
Copyright © 2001 - 2011 SchoolArabia. All rights reserved الحقوق القانونية و حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمدرسة العربية |