أمين الريحاني والخطابة الثلاثاء في 14 / 2 / 1922
أقام المصريون اليوم حفلة تكريم لأمين الريحاني في بهو الجامعة الأميركية ، وقد سبقتها حفلات عديدة لتكريمه في أماكن مختلفة . فمرّ عليّ الصديق نعوم بك شقير فذهبنا معاً ، فكان البهو غاصاً بجمهور كبير من مصريين وسوريين .
ذهبت لأني أحب أن أرى أمين الريحاني لأني لم أره قبل اليوم إلا مصوراً في صدر كتابة "الريحانيات" وصورته في كتابه تمثله في ميعة الشباب ولعلها لا تمثله أحسن تمثيل . أوحببت أن أقف على نفسية الناس في مثل هذه الحفلات . وسأشير هنا إلى بعض تأثراتي وملاحظاتي على وجه الاختصار : إذا كانت الخطابة أن يكون الكلام منسجماً آخذاً بعضها برقاب بعض ، أن يكون المنطق جزلاً والصوت جهيراً ، أن نفخم الحروف المفخمة ونرقق الحروف الرقيقة ونختلس الحركات القصيرة ونشبع الحركات الطويلة ونمد الممدودة وتراعى فيه كل أصول التجويد ، أن يكثل المعنى تمثيلاً، فكل الذين خطبوا خطباء مصاقع ، وإذا كان الشعر أن يكون الكلام موزوناً ، والقوافي محكمة ، فكل الذين أنشدوا القصائد شعراء ، ولكن إذا كانت الخطابة أن نكاشف الناس بأفكار جديدة أو نعالج المواضيع المبتذلة من باب جديد ، أن تعرض على الناس من علمك أو اختبارك ما لم يكن لهم به عهد ، فليس بينهم من يستحق أن يسمى خطيباً. وإذا كان الشعر أن تأتي الناس يوحي جديد ، فليس بينهم شعراء . بل قد سمعت قبل اليوم في سوريا وفلسطين من الخطباء والشعراء من هم أطول باعاً في هذا النوع من الشعر والخطابة .
ليست هذه أول مرة زار فيها الريحاني القطر المصري ، بل هي الثانية ، ولم يكن في زيارته الأول أقل شهرة في عالم الأدب منه اليوم ، بل لعله كان له من نزوات الشباب وبدوات الخاطر وشدة العواطف وحدة الجنان وتلهب الذكاء وطلاوة الجديد ما يعظم وقعه ويجل شأنه ، فجاء وذهب ولم يدر به أحد ، فما معنى إكثارهم من الحفلات اليوم لتكريمه ؟ وقد ظهر لي من كلام الخطباء والشعراء بل سمعت من كثيرين من الأدباء أنهم لا يعرفونه ولم يقرأوا له شيئاً قبل اليوم ، والذين عرفوه لم يعرفوا عنه إلا الشيء النادر القليل مما لا يستدعي مثل هذه الحفاوة . يلوح لي أنه هذه المرة قد جاء في الوقت المناسب . جاء والنفوس متلهبة والخواطر ثائرة فلم يكن احتفالهم به إلا وسيلة لعقد الاجتماعات وإظهار ما تكنه النفوس الخ ... وكانت الحفلة أشبه بالاجتماعات الوطنية منها بالاجتماعات العلمية الأدبية .
مما يؤيد قولي هذا إن الخطباء والشعراء تكلموا كثيراً إلا عن الريحاني ، والناس صفقوا كثيراً إلا للريحاني ، فما أشبه الريحاني وهذه الحفلات بذلك الخطيب الذي سأل أحد أصحابه عن رأيه في خطابه ، فقال : "لو كان الموضوع مصاباً بالحمى القرمزية لما سرت العدوى إلى الخطاب" أي أن الخطاب كان بعيداً جداً عن الموضوع .
من أغرب ما رأيت والمكان أميركي والمصريون يبشرون بالديموقراطية أنهم أجلسوا بعض المدعوين على دكة الخطابة كأنهم أعلى من أن يجلسوا بين الناس كالناس . الحفلة لتكريم العلم والأدب لا لتكريم الغنى أو السن أو الزعامة أو الوجاهة أو غير ذلك ، ولكن الذين أجلسوهم فوق الدكة ليسوا من أهل العلم والأدب ، بل لم يكن بينهم من أهل العلم إلا الدكتور صروف وقد ألحّ عليهم أن يتركوه بين الناس فأبوا عليه ذلك . فإعلاء بعض المدعوين فوق بعض لا يناسب مع المكان وهو أميركي ولا يناسب مع الروح الديموقراطية التي يدّعون أنهم يدعون إليها ويبشرون بها . ولا يأول ذلك إلا أنهم لا يزالون عبيد آراء قديمة بالية ، وأنهم لا يحتفلون لتكريم أحد إلا أشركوا في تكريمه ساداتهم من أهل الوجاهة والغنى الخ ... إني أحتجّ على ذلك فليس من المجاملة ولا اللياقة أن تدعو الناس لحضور حفلتك ثم تتولى تقسيمهم إلى طبقات فتضع هذا في الطبقة الأولى وذاك في الطبقة الثانية . أنت حر أن تكرم وتجامل من شئت ولكنك لست حراً أن تحقر أحداً . ألم يكن معنى ذلك أن صاحب الدعوة قال للناس : "أنتم طبقات فمنكم طبقة عالية ومنكم طبقة واطئة" ... ؟
خُيّل إليّ والخطباء يخطبون والشعراء ينشدون والناس تارة يصفقون ويهتفون وتارة يستكنون ويهمدون إننا في جوّ سحريّ ، في مجلس سحرة، وقديماً كانت مصر بلاد السحر والشعوذة . لم يكن الخطيب أو الشاعر يؤثر في الناس لأنه خطيب أو شاعر ولكن لأن صاحب الدعوة يقدمه إلى الناس كخطيب وشاعر ، فتتجه إليه الأبصار وترهف الآذان ، بل ويُقابل بالتصفيق قبل أن يعلو المنبر ويقول كلمة ، بل لو وقف واعتذر ثم نزل لعده الناس خطيباً أو شاعراً ، بل ربما استهوى هو نفسه وحسب نفسه خطيباً أو شاعراً . كان يقف الخطيب أو الشاعر فيخطب أو ينشد فقد تقع كلمة من كلماته في نفس أحد الحاضرين إما لأنه فخّم الحرف المفخم أو رقق الحرف الرقيق أو أشبع الحركة الطويلة أو اختلس الحركة القصيرة ، أو لأنه أشار بيده أو رفس برجله أو رفع رأسه أو خفضه أو التفت إلى الوراء أو إلى جانب ، أو لأن الكلمة نفسها من الألفاظ السحرية الرنانة التي اعتاد الناس أن يتأثروا لها في غير هذا الموقف ، أو لغير ذلك ، فينتفض انتفاضة العصفور بلله القطر ، فيصفق ، فيشترك معه الناس في التصفيق. بل رأيتهم يصفقون إذا جاءت نوبة شاعر أو خطيب فقال صاحب الدعوة أنه تخلف عن الحضور بسبب مرض أو شغل أو غير ذلك وأنه سيرسل تحيته للمُحتفل به ، فكأنهم كانوا يصفقون لتلك التحية قبل أن يسمعوها أو قياساً على ما سمعوه منه قبل اليوم . كان من جملة المعينين للكلام واصف غالي ، وهو أحد زعماء السياسة في القطر المصري ، فلم يحضر ولكن أرسل كتاباً إلى صاحب الدعوة يعتذر ، فلم يذكر اسمه حتى دوى المكان بالتصفيق الحاد الطويل والهتاف الشديد .
|
||||||||||
Copyright © 2001 - 2011 SchoolArabia. All rights reserved الحقوق القانونية و حقوق الملكية الفكرية محفوظة للمدرسة العربية |